منذ حوالي ربع قرن من الزمان كان اعتزال الفن أمرا لا يثير الرأي العام لأسباب عديدة في مقدمتها أنه لم يكن بالقدر المؤثر الذي يمكن أن يحدث نوعًا من الهزة داخل الوسط الفني الثابت بمكوناته التي تقوم علي مفردات وقواعد شديدة الخصوصية.
ولو رجعنا بالذاكرة إلي الوراء مع بدايات الحركة الفنية في مصر واستندنا إلي شهادة واحد من رواد الفن المصري وعلم من أعلامه هو يوسف وهبي في مذكراته المنشورة تحت اسم (عشت ألف عام) وصدرت كتابًا في عدة طبعات سيصدمنا الفنان الكبير بانطباعات العامة من الشعب عن الفن التمثيلي أو التشخيص حيث كانوا يعتبرونه (انحطاطًا وابتذالاً ودربًا من دروب المسخرة). وعندما وضربًا من ضروب صفحات المذكرات سنكتشف أن حياة (المشخصاتية أو الممثلين) كانت ترتبط ارتباطًا وثيقًا بأجواء (الحانات - بيوت الدعارة - فتيات الليل - القمار - المشاجرات) وهو ما شكل الخلفية المعرفية والموروث المعلوماتي عن دنيا الفنون.
غير أن هذه الرؤي لم تلبث أن تسكن العقول ولا تغادرها بعد ما غزت المسارح كل القطر المصري, ثم تلي ذلك ذيوع صيت الفن السينمائي وانتشار الإعلام الفني بـ (صحفه ومجلاته) التي شكلت فيما بعد جزءًا من الرسالة الإعلامية الخاصة بالممثلين بإعتبارهم جزءًا هامًا من صفوة المجتمع.
ولأن رواد الحركة السينمائية المصرية كانوا قد تلقوا تعليمهم أو حرفتهم السينمائية من الغرب فلقد عادوا بقواعد اللعبة مضافًا إليها قيمها الغربية.
وبدأت المعركة بتقديم المرأة علي شاشة السينما في زمن كانت المرأة فيه لا تغادر بيتها إلا بحجابها إن لم يكن مضافًا إليه (النقاب). فتعمد صنّاع السينما أن تكون باكورة انتاجهم أفلامًا تحمل أسماءً نسائية في محاولة لكسر حاجز الرهبة في نفوس العامة ولتقليل حساسية القضية في النفوس فكانت أفلام مثل (زينب - فاطمة - بنت الصحراء).
وبعدها بدأ حشر الطقس الاحتفالي الذي يتطلب وجود (الغوازي - الراقصات) مثل الموالد والأفراح حتي يمكن تقديم المرأة بشكل أكثر إباحية.
وتلي هذه المرحلة استحداث (موضة) قبلة الختام لتكون أسلوبًا لإخراج خصوصية الفعل إلي العلن وحتي يتقبل الجمهور ما يستتبع هذا من أفعال أو مقدمات.
تحولات سينمائية
وتحويلاً لمجريات الحدث بدأت تظهر موجة أفلام أهل الفن (الممثل - المغني - الراقصة) وعند هذه الأخيرة نقف لأنها المتعلقة بحديثنا حيث بدأت الأفلام تناقش طبيعة عملها والمصاعب التي تواجهها ولقمة العيش والكد في سبيلها. وهكذا أصبح طبيعيًا أن تجاري الراقصة زبائن الصالة.. وأن تتعرض لحالات اعتداء ومحاولات اغتصاب.. لكنها دائمًا تدافع عن شرفها حتي النهاية!
ثم ظهرت موجة من أفلام (الإغراء) وأصبح له نجماته وأبرزهن (هند رستم) وبدأت الأفلام الفنية تعقد مقارنات بين نجمات الإغراء المصريات وزميلاتهن الغربيات وفي مقدمتهن طبعًا (مارلين مونرو). وراح بعض مخرجينا يتفاخرون بتخصصهم الإغرائي.
وعندما دخلت السينما حقبة السبعينيات وما كان فيها من أزمات مادية سارع كبار نجومنا وصغارهم بحجز مقاعد سفر إلي كل من لبنان وتركيا, والأولي شهدت وافدين أكثر حيث ازدهرت صناعة السينما الرخيصة التي كانت تعتمد بالدرجة الأولي علي المشاهد الساخنة والأجساد العارية والقصص الملفقة وهي في المحمل سينما قليلة التكلفة. (رجال لا يأكلون اللحم - طريق بلا نهاية).
ومع استمرار الواقع السياسي والاقتصادي المصري بدأ أهل الفن يحاولون إعادة نشاطهم إلي سابق عهده متناسين ما جري علي الواقع الجماهيري من تغيرات ما بعد نكسة 1967م وانتصار 1973م وفتح المعتقلات ومعاهدة السلام والروح الإسلامية التي بدأت تسري من جديد في بدن الجماهير وتمثلت بشكل أساسي في عودة الحجاب إلي النساء بمختلف أعمارهن وانحسار ظاهرة (الميني جيب والميكروجيب).
إضافة إلي تلقي الجامعات المصرية لخطاب إسلامي معاصر ومغاير علي يد شباب التيار الإسلامي في نهاية السبعينيات وهو ما أثر شكلاً وموضوعًا علي لون الحياة في الجامعات والشوارع والمساجد.
ولم يفكر أهل الفن رغم هذا في محاولة قراءة الواقع الجديد لصياغة خطاب فني يناسبه وقرروا التعامل مع اللغة الفنية بنظام (علي قديمة) فكانت المفاجأة أن استيقظوا علي قرار مفاجئ للفنانة شمس البارودي باعتزال الفن وارتداء الحجاب. رغم أنها كانت إحدي نجمات الساحة وواحدة من فتياتها الفاتنات التي تملك كل مقومات النجومية بالمقاييس التي كانت سائدة.
ولم يلفت اعتزال شمس نظر أهل الفن وواصلوا السير في طريقهم ضاربين بتحول الشارع عرض الحائط. غير أن بعضًا من كبار النجوم بدأوا في مراجعة حياتهم السابقة وقرروا أن تكون نهاية حياتهم الفنية والواقعية تحمل لونا من التصوف وكان علي رأس هؤلاء القديران (شكري سرحان ويحيي شاهين).
حلال أم حرام?
وفي هذا التوقيت طرح سؤال (هل الفن حرام أم حلال?) نفسه وبقوة, وهو سؤال لم يكن يتطرق إلي الأذهان من قبل - حتي أن ممثلاً بحجم يحيي شاهين أعلن علي الملأ فتوي أخذها من الإمام الراحل عبد الحليم محمود تقول (الفن الجيد والملتزم حلال حلال, والفنان صاحب الرسالة مثل الداعية بل ويتفوق عليه بأن جمهوره أكثر بكثير).
ولم يحاول أحد من الفنانين أن يزن أعماله بميزان فتوي شيخ الأزهر أو يعقل ما حاول يحيي شاهين أن يقوله واستمر السير علي درب الفن بقواعد قديمة وهو ما أدي إلي انتكاسة صناعة السينما في الثمانينيات لعزوف الجماهير عنها, وفي ذات الوقت بدأ نجم الامام الراحل محمد متولي الشعراوي في البزوغ والسيطرة علي الشارع وبدأ يمد صلاته مع من يطلب الفتوي من أهل الفن, حتي أعلنت كل من الراقصة هالة الصافي الاعتزال وارتداء النقاب وخلعت اسمها الفني وعادت إلي اسمها الحقيقي (سهير عابدين) وتلتها سحر حمدي. ثم كانت المفاجأة بإعلان الفنانة الكبيرة شادية الاعتزال وارتداء الحجاب بل ووهبت ثروتها لبناء مسجد ووقف لتحفيظ القرآن.
وتأثر الوسط الفني باعتزال شادية للفن. وتحرك الحرس القديم في الوسط لضرب هذا المد الذي يهدد كيان الامبراطورية الفنية وقواعدها وآدابها الخاصة. وبدأت تصريحات تؤكد أن اعتزال الفن يتم بناءً علي مبالغ مالية ضخمة تدفعها جهات أجنبية للفنانات حتي يتم ضرب سمعة الفن المصري!
ولم تلق هذه التهمة قبولاً لدي الشارع المصري ولم تروج لها المعتزلات بعدم ردهن عليها, فتحولت التهمة إلي تبرير يؤكد أن قرار الاعتزال جاء بعدما طعنت النجمات في السن وخفتت عنهن الأضواء. وبناء عليه قررن الاعتزال حفاظًا علي نجوميتهن. وسرعان ما جاء الرد علي هذا التبرير ممثلاً في صفعة سددتها كل من الفنانة الشابة هناء ثروت وزميلتها نسرين بقرار فاجأ الجميع أعلنتا فيه اعتزالهما الفن وارتداء الحجاب.
ومما لا شك فيه كان لهذا العمل الإسلامي في صفوف الفنانات رائداته اللاتي بدأن يتحركن في هذا الوسط.. ولمعت أسماء داعيات مثقفات كان أبرزهن الحاجة (زينب الغزالي) التي كان لها سيطها في العمل الإسلامي النسائي.
وأما الضلع الثاني فكان ممثلاً في واحدة من سيدات المجتمع الراقي واحدي عضوات نادي الجزيرة وهي السيدة (زهيرة العبد) التي ارتدت الحجاب وبدأت تنغمس في القراءة والاطلاع ثم تحركت في العمل الخيري منطلقة من مسجد مصطفي محمود واستطاعت أن تجمع حولها سيدات المجتمع وتقنعهن بالحجاب ومدت نشاطها ليشمل الفنانات.
الحرب مستمرة
ولم تهدأ الحرب علي الفنانات المحجبات رغم صمتهن واصرارهن علي عدم الادلاء بأحاديث اعلامية عن ملابسات الاعتزال فظهرت كتب تهاجمهن وإن كانت في مجملها تهدف إلي استثمار الظاهرة تجاريًا من خلال التوزيع. وكان من أبرز هذه الكتب (فنانات وراء الحجاب - معركة الحجاب - أسرار الحجاب المدفوع).
ورغم أن المعركة كانت تزداد شراسة إلا أن السيدة زهيرة العبد استطاعت أن تصل إلي قلب الفنانة (ياسمين الخيام) وتقنعها بالعدول عن دورها في دنيا الفنون وتحويل مجري حياتها إلي درب والدها الشيخ (محمود خليل الحصري) وبالفعل أعلنت ياسمين الخيام اعتزال الغناء والعودة إلي اسمها الحقيقي (افراج الحصري) وتحول مسجد الحصري بالعجوزة إلي محضن للفنانات. وبدأت (أفراج - ياسمين) في لعب دور الأخت الكبري للكثيرات.
وبهدوء تم اعلان حجاب الفنانة (نورا - علوية قدري) ثم سهير رمزي وهالة فؤاد التي لم تكد ترتدي الحجاب حتي لحقت ببارئها. ومثلها مديحة كامل التي اعتزلت في قمة شهرتها ثم رحلت عن دنيانا ورغم رحيلها لم تسلم من محاولات النيل من حجابها فعمدت جميع وسائل الإعلام إلي تصوير اعتزالها علي أنه كان مستندًا إلي علمها بمرض ما أصابها وكان يستحيل معه الشفاء. غير أن الواقع أثبت فيما بعد أن قرارها كان مرجعه دعوة ابنتها ميرهان لها لارتداء الحجاب واعتزال الفن.
المذيعات أيضًا
ولم يكن موقف أهل الفن أقل تشددًا تجاه مسألة حجاب العاملات فيه من أهل الإعلام. فكما ضحت الفنانات بنجوميتهن فعلت المذيعات وفتحت الطريق المذيعة (كاميليا العربي) حين قررت ارتداء الحجاب وطلبت من إدارة التليفزيون السماح لها بمباشرة عملها به لكنها رفضت فكان قرار كاميليا هو اعتزال العمل الإعلامي وارتداء النقاب والتوجه إلي العمل الخيري. ومثلها فعلت المذيعات 0عفاف عبد الرازق وعفاف الهلاوي وسحر جبريل ومها سمير وقبلهن جميعًا مني جبر).
ورغم ضيق الوسط الفني بظاهرة حجاب الفنانات إلا أن أسلوبًا جديدًا بدأت بعض الفنانات اتباعه ألا وهو (عدم ترك المكان شاغرًا ليحتله غيري) علي حد تعبير الفنانة مديحة حمدي عندما قررت ارتداء الحجاب والاستمرار في العمل الفني في محاولة لتقديم صورة مغايرة. وفعل أكثر ايجابية خاصة في ظل جو من الاتهامات غير الموضوعية التي توجه إلي المعتزلات, وهو طريق سارت علي دربه كل من عفاف شعيب وهدي سلطان.
ورغم هذا الأسلوب الجديد الذي يفرض الحجاب كواقع علي الساحة الفنية إلا أن موجة اعتزال الفن لم تتوقف بل زادت, ففي عام واحد اعتزلت راقصتان هما (عزة شريف وأميرة) ومن الفنانات اعتزلت صفاء السبع ولمياء الجداوي وميرفت الجندي.
وعادت من جديد تهمة الدفع مقابل الحجاب وقادت إحدي المجلات الأسبوعية حملة شعواء تؤكد هذا واستشهدت بحديث للمذيعة (نجوي إبراهيم) تؤكد أن هناك من عرض عليها مليون جنيه لترتدي الحجاب. لكن شاءت الأقدار أن تعلن كل من (سوسن بدر وفريدة سيف النصر) اعتزال الفن وارتداء الحجاب ثم تعودا لمزاولة نشاطهما الفني من دون حجاب وهو الأمر الذي أكد أن اتهام الحصول علي أموال مقابل الحجاب ما هو إلا اتهام مغرض وأن الأمر كله اقتناع بالدرجة الأولي. ثم تبع هذا إعلان الفنانة (شهيرة) اعتزالها وحولت بيتها بالهرم إلي مركز للدعوة للحجاب. وتبعتها الفنانة 0سهير البابلي التي اختارت الحجاب علي الاستمرار في واحدة من أنجح مسرحياتها (عطية الإرهابية). وسخرت قدراتها في الحديث إلي صد التهم الموجهة إلي حجابها وأخواتها الفنانات وبدأت في تبني استراتيجية (المواجهة فلست الآن في موضع أضعف ولا أقل من السابق) علي حد تصريحاتها.
ورغم أن انسحاب سهير البابلي من (عطية الإرهابية) أتاح الفرصة للشابة عبير الشرقاوي لتحصل علي فرصة عمرها وتقف مكان سهير علي المسرح بين تأييد كبار النجوم في مصر والكتاب أيضًا إلا أن مد الحجاب انتزع عبير من كل هذا فاثرت اعتزال الفن.
رؤية قبل الاعتزال
وتواصل المد ليشمل المطربتين مني عبد الغني وحنان في أقل من شهرين ثم تبعتهما صابرين رغم جماهيرتها التي فاقت كل حد بعد نجاح مسلسلها (أم كلثوم), مما أثار حفيظة أهل الفن فراحوا يؤكدون أن اعتزالها جاء بعد أن قدمت كل ما عندها. لكنها علقت (لقد أخبرت المخرجة انعام محمد علي أنني سوف أرتدي الحجاب بعد المسلسل لأن الرسول جاءني في المنام ورفض أن يسلم عليّ).
وفي أقل من شهر واحد أعلنت أربع من نجمات مصر الصغيرات (موناليزا - ميرنا المهندس - عبير صبري - غادة عادل) اعتزال الفن وارتداء الحجاب الأمر الذي قلب الدنيا رأسًا علي عقب.. فلم يعد اتهام تعاطي الأموال صالحًا ولن يجدي تبرير تجاوز السن المؤهلة للنجومية وفشلت حجة المرض الذي يدفع للحجاب وإلا لتحجب ميرنا وهي في مرضها وليس بعد الشفاء ولن يفلح تعليق المسألة علي عدم وجود أدوار مناسبة, وعبير صبري تركت الساحة وهي بطلة مسرحية وفيلم وتعد لآخر. ومثلها غادة عادل إضافة إلي أن زوجها مجدي الهواري منتجًا سينمائيًا.
وظهرت هوجة جديدة تؤكد أن حجاب الفنانات محاولة مغرضة من قبل قوي خارجية للنيل من ريادة مصر الفنية.. الجميع يقولون بهذا.. ويصرخون.. ويتوعدون ولكن لم يفكر عقلاء الوسط الفني في مراجعة ما يقدمون لتنفيذه حتي يمكن لهم معرفة السبب الحقيقي وراء اعتزال فن لا يحترم المرأة وينظر لها كسلعة.. رغم أن الجماهير تري فيها الأم والزوجة والأخت والابنة الجوهرة المكنونة.
لا تحرمني من تقيمك
.
--------------------------------------------------------------------------------